يعود تأسيس النواة الأولى لمتحف مدينة سوسة إلى نهاية القرن التاسع عشر وتحديدا إلى سنة 1897. ومن دلالات هذا التاريخ إدراك الاحتلال الفرنسي منذ بدايته سنة 1881 لأهمية المخزون الأثري للمدينة وقيمته الحضارية. كما تكمن أهمية التأسيس في اختيار مكان المتحف بساحة "بيشون"بقلب المدينة مجاورا للميناء التجاري وغير بعيد عن المنشات الهامة الأخرى على غرار مركز البريد ومحطة الأرتال...
بمرور الزمن وبحكم تواتر الاكتشافات الأثرية وما أتاحته من تنوع اللُقى بمدينة سوسة ومحيطها والتي ترجع خاصة إلى العهدين البوني والروماني، على غرار اللوحات الفسيفسائية والنصب الحجرية والمنحوتات الرخامية والقطع الفخارية... واعتبارا لضيق مساحة الفضاء الأول المخصص للعرض بالمتحف، تمت تهيئة كل من القاعة الشرفية للفرقة الرابعة لمشاة الجيش الفرنسي الواقعة بالطابق العلوي لقصبة مدينة سوسة، مع فضاء ثالث بإحدى قاعات قصر البلدية قبالة الميناء التجاري، حتى تستجيب للحد الأدنى من مقتضيات العرض المتحفي.
أثناء الحرب العالمية الثانية وبين سنتي 1942 و1943، كانت مدينة سوسة مسرحا للمواجهات العسكرية بين قوى الحلف وقوى المحور، حيث تعرضت لغارات جوية مركزة وعنيفة استهدفت المنشآت الحيوية، على غرار الميناء ومحيطه المباشر، مما أدى إلى دمار شبه كلي طال متحف المدينة بمراكزه الثلاث، وإلى إتلاف عدد هام من القطع الأثرية المعروضة آنذاك.
في مرحلة لاحقة، و بفضل مجموعة من الأثريين الفرنسيين أمثال "بيكار" و " ترييو " و غيرهما أعيد تجميع ما بقي من القطع الأثرية المتناثرة مع ما وقع اكتشافه تباعا بالمواقع الأثرية بمنطقة الساحل التونسي ليتم عرضها هذه المرة بالجزء الجنوبي لقصبة مدينة سوسة أين تمت تهيئة فضاء متحفي جديد أُفتتح للزوار سنة 1951 بفضل مجموعة من الأثريين الفرنسيين أبرزهم "لوي فوشاي" و الذي كان له الفضل في توسيع مجالات البحث الأثري بالتزامن مع اكتشاف المزيد من المواقع الأثرية الهامة بالساحل التونسي وهو ما فتح أبواب النشر العلمي على مصراعيها كما دعم مكانة المتحف كفضاء رحب للمعروضات المكتشفة ليتحول أيضا إلى مركزلتكوين جيل جديد و واعد من الأثريين و الباحثين التونسيين و المختصين في مجالات الترميم و الفسيفساء خلال فترة مابعد الاستقلال.
تواصل نشاط المتحف الأثري بسوسة كمنارة حضارية ووجهة سياحية مستمدا أهميته من محتوياته النفيسة ومن موضعه بين أسوار القصبة ذلك المعلم التاريخي الشامخ (يعود بناؤه إلى منتصف القرن التاسع ميلادي خلال بدايات العهد الإسلامي بالبلاد التونسية) بمنارته المطلة على المدينة العتيقة المصنفة بدورها على لائحة التراث العالمي منذ ديسمبر 1988.
ارث مميز وفريد اقتضى المحافظة عليه وتثمينه بما يواكب متغيرات العرض المتحفي المعاصر فكان مشروع إعادة التهيئة تحت إشراف المعهد الوطني للتراث ومختلف الهياكل المتشاركة وذات العلاقة لتمتد الأشغال بين سنتي 2007 و2012. وقد شملت خاصة توسعة الفضاء المتحفي على حساب السجن المدني القديم مع رفع الشوائب التي طالت القصبة وأسوارها عبر السنين وبناء قاعات عروض عصرية تحت أرضية على مساحة 2000 متر مربع فضلا عن عمليات الصيانة والترميم الواسعة لعدد هام من اللوحات الفسيفسائية والقطع الأثرية الأخرى دون إهمال إعادة النظر في المخازن وعمليات الجرد والتوثيق.
يضمّ المتحف الأثري بسوسة في شكله الحالي ثاني اكبر مجموعة فسيفسائية بالبلاد التونسية بعد مجموعة متحف باردو صنع اغلبها بمقاطعة البيزاكيوم الساحلية (منذ العهد السِيفوري من الفترة الرومانية إلى الفترة البيزنطية ) والتي تم اكتشافها بهدرمتوم الرومانية و بالمواقع الساحلية الاخرى، على غرار الجم والنفيضة والمكنين وتمترا وأوزيتا ... و تجسّد اللوحات مشاهد أسطورية و شخصيات خرافية ومواضيع تتعلق بالحياة اليومية من ممارسات ومعتقدات و أنشطة؛ هذا بالإضافة إلى أعمال النحت الرخامية المميزة للعهد الإمبراطوري الروماني القديم بمدينة هدرمتوم و محيطها المجاور. تأخذك متعة التجول بين أروقة متحف سوسة إلى الوقوف باستمتاع على أرث بوني فريد يدفع بك إلى مزيد التأمل والبحث في عراقة المدينة بما تحمله من أثر وتأثير في محيطها المباشر القريب وحتى المتوسطي من خلال المجموعات الفخارية المتنوعة فضلا عن الأثاث الجنائزي من مسلاّت وجرار ونصب نذرية حجرية فريدة عثر عليها بعدد من مقابر المدينة التي تعود إلى الحقبتين الفينيقية والبونية.
في ختام الزيارة يتيح لك متحف سوسة متعة التنزه بحديقة القصبة وبالفضاء البانورامي المطل على المدينة العتيقة وميناء المدينة.